مستقبل القبائل العربية في السودان- تداعيات حرب الدعم السريع

في أعقاب الانتصارات الحاسمة التي حققها الجيش السوداني على قوات الدعم السريع في مختلف ولايات السودان وميادين القتال خلال الأيام القليلة الماضية، ومع تبدد أحلام المتمردين وفشل خططهم السياسية والعسكرية، ووصول الحرب إلى منعطف حاسم، تتفاقم مشاعر القلق والخوف والريبة بشأن التداعيات والآثار المدمرة للحرب على القبائل العربية المنتشرة في المساحات الجغرافية الواسعة في غرب السودان، والتي تمتد من ضفاف نهر النيل شرقاً إلى سواحل المحيط الأطلسي في غرب أفريقيا.
هذه المنطقة الجغرافية الشاسعة، التي عُرفت على مر القرون الماضية خلال الاكتشافات الجغرافية الأوروبية، وحتى قبل ذلك من خلال الرحالة العرب، أطلق عليها الجغرافيون والمؤرخون حتى مطلع العصر الحديث اسم "السودان الغربي والسودان الأوسط"، وهي تشمل حالياً دول أفريقيا جنوب الصحراء، وخاصة دول حوضي نهري النيجر والسنغال وبحيرة تشاد والمناطق المحيطة بها، والتي باتت تعرف حديثاً بدول الساحل.
لا خلاف على أن التدخلات الخارجية قد ضاعفت من تعقيدات الحرب في السودان، حيث أشعلت هذه الجهات الخارجية نيران الفتنة في البيئة الاجتماعية المتشابكة والمتداخلة، والتي تتقاسمها تسع دول في المنطقة. لم تكن هذه الجهات الخارجية تدرك مدى خطورة الخلل السياسي والاجتماعي الذي ستتسبب فيه، وأي موجة من الجنون والفوضى ستجتاح مجتمعات ودول أفريقيا جنوب الصحراء نتيجة لهذه الحرب.
لطالما عانت القبائل العربية في هذا الجزء المترامي الأطراف من القارة الأفريقية، من التهميش والإقصاء، حيث عاشت على هامش الحياة السياسية وبعيدة عن مراكز السلطة، تماماً كغيرها من القبائل الصحراوية. ظلت تراودها أحلامها وطموحاتها بسبب التفاعلات السياسية الجارية منذ ستينيات القرن الماضي.
تفاقم هذا الوضع مع صعود نجم قوات الدعم السريع في السودان، حيث اعتقد بعض أبناء القبائل العربية في هذه المنطقة الشاسعة أنهم وجدوا ضالتهم المنشودة في السيطرة على الدولة السودانية والانطلاق منها غرباً. إلا أن بعض العقلاء منهم أدركوا أن الدعم السريع يمثل مشروعاً سياسياً وعسكرياً متهوراً، فاشلاً، وخاسراً، ولا يمتلك مقومات الاستمرار والبقاء.
ومع ذلك، فقد حظي الدعم السريع بتأييد بعض الأصوات من النخب والقيادات القبلية، واندفعت هذه المجموعات مدفوعة بقوة التاريخ وعوامل الجغرافيا، لدعم التمرد في السودان، متوهمة أن مسار التاريخ سيتغير لصالحها، دون الأخذ في الاعتبار المعادلات الطبيعية لحركة التاريخ.
يدرك بعض المثقفين والعقلاء من أبناء القبائل العربية في غرب السودان، أي في السودانين الغربي والأوسط، أن مشروع الدعم السريع وحربها الحالية، لا يمت بصلة حقيقية لتطلعات القبائل بعد استقلال دول المنطقة، ولكنه ربما أثار مشاعر الغضب وأوقد نار الفتنة في النفوس، وفقاً للمعطيات الظرفية لكل دولة في الإقليم.
لطالما سعت هذه الأطياف المتنوعة من المثقفين والسياسيين والقيادات ذات الأصول العربية، بخطوات دؤوبة وجادة للتعبير عن دورهم في التفاعلات السياسية المتطورة في بلدانهم، من أجل تحقيق المشاركة السياسية التي تليق بهم، وتحويل مجتمعاتهم الرعوية إلى مجتمعات مستقرة وآمنة، والإسهام بفاعلية في بناء أوطانهم. ولا شك أنهم كانوا جزءاً أصيلاً من الحركات التحررية ورواد الاستقلال، وفي قلب حركة النضال المدني والعسكري على مدى العقود الستة الماضية في أقطارهم.
في ضوء التطورات الاجتماعية والسياسية، ونتائج التنمية الاجتماعية ومعدلاتها، نما حلم القبائل العربية في هذه المنطقة الشاسعة، ولكنها لم تخطط لمشروع سياسي أو تسعى لصراع سلطوي مسلح، سواء كانت موحدة أو متعاونة أو منفردة، باستثناء تجارب الحركات المسلحة في تشاد منذ العام 1965، عندما ثار الشعب ضد حكم الرئيس فرانسوا تمبلباي وتم تأسيس حركة فرولينا، وكان عرب تشاد في الواجهة ومن الآباء المؤسسين. وفي تلك الفترة، سارعت القبائل العربية إلى الاندماج مع غيرها من القبائل، وعملت على تأسيس حركات وتنظيمات سياسية مسلحة، يسري عليها ما يسري على الجميع دون الاستفراد بمشروع أحادي العرق.
عندما صعد نجم الدعم السريع عقب مشاركتها في حرب اليمن وعاصفة الحزم، وتحديداً في عام 2017، وبدعم من دولة إقليمية، عُقد أول لقاء سري لقيادتها مع الموساد الإسرائيلي، تم خلاله رسم مخطط كانت فيه المصالح الإسرائيلية واضحة وتمت مخاطبة أطماع ومصالح وتطلعات قيادة الدعم السريع.
في نفس الوقت، تم تجنيد مجموعات من عرب تشاد وقليل منهم من جنوب ليبيا وبعض أبناء القبائل العربية في شمال غرب أفريقيا الوسطى، لصالح الدعم السريع، وتم نقلهم للمشاركة في حرب اليمن. وقُدر عددهم في ذلك الوقت حتى العام 2019، بما يقارب أحد عشر ألف مجند، وازداد العدد بنسبة تجاوزت 400% بعد سقوط نظام الرئيس عمر البشير، ووجدت قيادة الدعم السريع الطريق ممهداً والأموال متدفقة لتنفيذ أكبر عملية تجنيد في القارة الأفريقية، بهدف صناعة جيش موازٍ للجيش السوداني، وتكوين النسخة الأفرو-عربية من شركة فاغنر الروسية.
مع اندلاع الحرب، كان لدى الدعم السريع ما يزيد عن 120,000 جندي شاركوا في محاولة الانقلاب والسيطرة على الدولة، وبدأت بهم الحرب، ويمثل الأجانب منهم 45%، وهم مرتزقة من تشاد والنيجر ومالي وجنوب ليبيا وأطراف من أفريقيا الوسطى وشرق نيجيريا والكاميرون وبوركينا فاسو وجنوب الجزائر، بالإضافة إلى مرتزقة من جنسيات أخرى، ويمثل العرب 70% من هذا الوجود الأجنبي داخل قوات الدعم السريع.
ونظراً لوجود القبائل المشتركة بين السودان وتشاد والنيجر ونيجيريا ومالي وليبيا وجنوب الجزائر والسنغال وموريتانيا، فقد التحقت مجموعات منها مع أبناء عمومتهم في السودان في قبائلهم المشتركة، وهي: (الرزيقات، والمسيرية، والحوازمة، والتعايشة، والحيماد، والبني هلبة، والهبانية، والسلامات، وأولاد راشد، وخزام، والبراريش، وأولاد سليمان، والمحاميد، والحسانية، والجعفريين)، بجانب قبائل أخرى غير عربية تعيش نفس الأوضاع السياسية والاجتماعية: (الطوارق، الفولاني، التبو، القرعان، الزغاوة، والبديات).
تم تجنيد أبناء القبائل العربية في غرب السودان وجواره الأفريقي لصالح الدعم السريع من فئات الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و45 عاماً كمقاتلين، بينما شاركت الفئات الأكبر سناً في مهام دعائية وفي عمليات التجنيد والاستقطاب، ونشط في ذلك زعماء القبائل ورموزها وقادتها، وتم توظيف عدد هائل من الناشطين والمتعلمين لصالح الدعاية السوداء التي اعتمدتها الدعم السريع في حربها.
مع توريط الدعم السريع لقبائل عرب غرب السودان ودول الساحل في الحرب، واستخدام أساليب الترغيب والترهيب في إغراء القيادات والزعامات القبلية وتوظيفها في عمليات الاستنفار والتجنيد وجر شباب القبائل للانضمام لمشروع الدعم السريع، انساق البعض وراء ذلك، وعبر الكثير منهم عن مخاوفهم من الارتدادات العكسية لهذا المشروع، وكانت لديهم تحفظات واضحة عليه، ومنهم الرئيس النيجري السابق محمد بازوم، والسيد محمد صالح النظيف وزير خارجية تشاد السابق، وعدد من القيادات في دول الإقليم الملتهب.
ليس من قبيل المبالغة القول إن تياراً في منطقة الساحل ودوائر رسمية واستخبارية غربية، لا تزال تنظر إلى النتائج والمحصلة الإستراتيجية لحرب السودان، وأهمها التوازنات السياسية والسكانية في هذه البلدان، لا سيما تشاد والنيجر المرتبطتين بالسودان، وليبيا، وهي منطقة زاخرة بالثقافة العربية والإسلامية ومصدرة لهما إلى أفريقيا جنوب الصحراء.
إذا كان هناك من يسعى لاستنزاف المورد البشري لعرب المنطقة وتقليل فاعليتهم بسبب الحرب الشعواء التي شنتها الدعم السريع في السودان واستقطبت لها جل العناصر المقاتلة في هذه الدول، فإن هذا المشروع الاستنزافي قد نجح بالفعل.
في السودان وحده، بلغت خسائر قبيلة الرزيقات التي ينتمي إليها قادة الدعم السريع عشرات الآلاف من الشباب، وقد تصل إلى 45 ألفاً في ولايات دارفور الخمس، بينما خسرت قبيلتا المسيرية والحوازمة، وهما من أكبر قبائل كردفان ودارفور العربية، ما يقارب العشرين ألفاً من شبابها، في حين خسرت قبائل البني هلبة والتعايشة والهبانية والفلاتة والسلامات والزيادية وقبائل أخرى بضعة آلاف في معارك الخرطوم وولاية الجزيرة ومعارك كردفان ودارفور، وخاصة مدينة الفاشر.
وتفيد حركات معارضة تشادية ينتمي معظمها للعنصر العربي، أن عدداً من قياداتها ورموزها وشبابها قد قُتلوا في حرب السودان، عندما تدافعوا بالآلاف للالتحاق بقوات الدعم السريع، وكذلك الحال بالنسبة لقبائل عربية في النيجر وجنوب ليبيا وأفريقيا الوسطى.
الصحيح دائماً أن القبائل لا تتحمل وزر ما اقترفته مليشيا الدعم السريع، ولكن مع ذلك، تواجه هذه القبائل في السودان، أو دول السودانين الغربي والأوسط، اتهامات قاسية بتورط أبنائها في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع، فضلاً عن عمليات النهب والسرقة لممتلكات السودانيين من سيارات وأموال ومصوغات ذهبية ومعدات وأثاث وأجهزة وأدوات مختلفة، وكل هذه المنهوبات تتواجد في أسواق غرب السودان ودول المنطقة المختلفة.
لكن الأثر الأشد وطأة هو حالة العداء والضغائن والأحقاد التي تعتصر القلوب في داخل السودان، وعودة النعرات القبلية والرغبة في الانتقام لدى شرائح مختلفة في المجتمع السوداني. وربما تكون هناك مخاوف وحذر بالغ لدى دول الساحل التي ترى في القبائل العربية خطراً داهماً لا بد من كبحه، خاصة إذا امتلكت هذه القبائل السلاح والمال والخبرة في القتال، وانتشرت فيها عدوى الدعم السريع، ورغبت في الاستيلاء على السلطة في بلدانها.
في حالة السودان، تحتاج القبائل العربية في غرب السودان، بعد نهاية هذه الحرب أو حتى قبلها، إلى الشروع في حوارات تصالحية عميقة مع قبائل السودان المختلفة، لكبح جماح ما يختلج في النفوس من حقد وغضب، وهي اليوم أحوج ما تكون لاستعادة الثقة من جديد، وأن تنفي عن نفسها ما جرى باسمها، وتتبرأ من جرائم الدعم السريع، وتنبذ الشعارات وخطاب الكراهية المتشح بالهمجية والتطرف، والمدفوع بسموم النظرة العرقية الضيقة والحيف الاجتماعي، والذي يستهدف قبائل بعينها في مناطق السودان المختلفة، ويدعو إلى تدمير وتخريب السودان وأركان بنائه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وتمزيق نسيجه القائم وتجربته التاريخية وتدمير البنية التحتية للدولة.
من الواضح وفقاً لمجريات الحرب أنها ستنتهي بهزيمة قوات الدعم السريع، وخروج قيادتها من المشهد العام، وملاحقة قادتها ورموزها والمتعاونين معها. ينبغي، مع نشوء حالة من التوجس والحساسية البالغة تجاه حاضناتها الاجتماعية، أن تُطرح أفكار وخطوات تقود إلى مصالحة وطنية شاملة، وذلك إن توفر الرشد السياسي والاجتماعي لدى الجميع، لأن الأثمان المنتظرة ستكون باهظة وواجبة السداد، بحجم ما ارتُكب من جرائم في حق السودانيين جميعاً.
لذلك كله، فإن مستقبل هذه القبائل على المحك، فإذا انتهت الحرب دون رؤية متكاملة للدولة والمجتمع، فإن الفرص التي كانت سانحة للاندماج الاجتماعي وتذويب العصبيات القبلية والعرقية قد تلاشت إلى حد كبير، وأصبحت بعيدة المنال، والدعم السريع يتحمل وزر ذلك، لأنه لطخ سمعة هذه القبائل، ودمر مستقبلها عندما حصدت حربها عشرات الآلاف من شبابها، وجعلتها في قفص الاتهام.